سورة النحل - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(37)}
يُسلِّي الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويثبت له حِرْصَه على أمته، وأنه يُحمِّل نفسه في سبيل هدايتهم فوق ما حَمَّله الله، كما قال له في آية أخرى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
ويقول تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
ثم بعد ذلك يقطع الحق سبحانه الأمل أمام المكذبين المعاندين، فيقول تعالى: {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ...} [النحل: 37].
أي: لا يضل إلا مَنْ لم يقبل الإيمان به فَيَدعُه إلى كفره، بل ويطمس على قلبه غيْر مأسُوف عليه، فهذه إرادته، وقد أجابه الله إلى ما يريد.
{وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ....} [النحل: 37].
إذن: المسألة ليستْ مجرد عدم الهداية، بل هناك معركة لا يجدون لهم فيها ناصراً أو معيناً يُخلِّصهم منها، كما قال تعالى: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100-101].
إذن: لا يهدي الله مَن اختار لنفسه الضلال، بل سيُعذِّبه عذاباً لا يجد مَنْ ينصُره فيه.
ثم يقول الحق سبحانه عنهم: {وَأَقْسَمُواْ بالله...}.


{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(38)}
{وَأَقْسَمُواْ بالله...} [النحل: 38].
سبحان الله!! كيف تُقسِمون بالله وأنتم لا تؤمنون به؟! وما مدلول كلمة الله عندكم؟.. هذه علامة غباء عند الكفار ودليل على أن موضوع الإيمان غير واضح في عقولهم؛ لأن كلمة الله نفسها دليلٌ على الإيمان به سبحانه، ولا توجد الكلمة في اللغة إلا بعد وجود ما تدل عليه أولاً.. فالتلفزيون مثلاً قبل أن يوجد لم يكن له اسم، ثم بعد أن وُجد أوجدوا له اسماً.
أذن: توجد المعاني أولاً، ثم توضع للمعاني أسماء، فإذا رأيت اسماً يكون معناه قبله أم بعده؟ يكون قبله.. فإذا قالوا: الله غير موجود نقول لهم: كذبتم؛ لأن كلمة الله لفظ موجود في اللغة، ولابد أن لها معنىً سبق وجودها.
إذن: فالإيمان سابقٌ للكفر.. وجاء الكفر منطقياً؛ لأن معنى الكفر: السَّتْر.. والسؤال إذن: ماذا ستر؟ ستر الإيمان، ولا يستر إلا موجوداً، وبذلك نقول: إن الكفر دليل على الإيمان.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ...} [النحل: 38].
أي: مبالغين في اليمين مُؤكّدينه، وما أقربَ غباءَهم هنا بما قالوه في آية أخرى: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
فليس هذا بكلام العقلاء. وكان ما أقسموا عليه بالله أنه: {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ...} [النحل: 38].
وهذا إنكار للبعث، كما سبق وأنْ قالوا: {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82].
فيرد عليهم الحق سبحانه {بلى}.
وهي أداة لنفي السابق عليها، وأهل اللغة يقولون: نفي النفي إثبات، إذاً (بلى) تنفي النفي قبلها وهو قولهم: {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ...} [النحل: 38].
فيكون المعنى: بل يبعث الله مَنْ يموت.
{وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً...} [النحل: 38].
والوَعْد هو الإخبار بشيء لم يأْتِ زمنه بعد، فإذا جاء وَعْدٌ بحدَث يأتي بَعْد ننظر فيمَنْ وعد: أقادرٌ على إيجاد ما وعد به؟ أم غير قادر؟
فإن كان غيرَ قادر على إنفاذ ما وعد به لأنه لا يضمن جميع الأسباب التي تعينه على إنفاذ وعده، قُلْنا له قُلْ: إنْ شاء الله.. حتى إذا جاء موعد التنفيذ فلم تَفِ بوعدك التمسْنا لك عُذْراً، وحتى لا تُوصف ساعتها بالكذب، فقد نسبتَ الأمر إلى مشيئة الله.
والحق تبارك وتعالى لا يمنعنا أن نُخطِّط للمستقبل ونعمل كذا ونبني كذا.. خَطِّط كما تحب، واعْدُدْ للمستقبل عِدَته، لكن أردف هذا بقولك: إنْ شاء الله؛ لأنك لا تملك جميع الأسباب التي تمكِّن من عمل ما تريد مستقبلاً، وقد قال الحق تبارك وتعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله...} [الكهف: 23-24].
ونضرب لذلك مثلاً: هَبْ أنك أردتَ أن تذهب غداً إلى فلان لتكلمه في أمر ما.. هل ضمنت لنفسك أن تعيش لغد؟ وهل ضمنت أن هذا الشخص سيكون موجوداً غداً؟ وهل ضمنتَ ألا يتغير الداعي الذي تريده؟ وربما توفرت لك هذه الظروف كلها، وعند الذهاب أَلَمَّ بك عائق منعك من الذهاب. إذن: يجب أن نُردف العمل في المستقبل بقولنا: إن شاء الله.
أما إذا كان الوعد من الله تعالى فهو قادر سبحانه على إنفاذ ما يَعِد به؛ لأنه لا قوة تستطيع أن تقفَ أمام مُراده، ولا شيءَ يُعجزه في الأرض ولا في السماء، كان الوعد منه سبحانه(حقاً) أنْ يُوفّيه.
ثم يقول الحق سبحانه: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 38].
أي: لا يعلمون أن الله قادر على البعث، كما قال تعالى: {وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...} [السجدة: 10].
وقال: {وقالوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49].
فقد استبعد الكفار أمر البعث؛ لأنهم لا يتصورون كيف يبعث الله الخلْق من لَدُن آدم عليه السلام حتى تقوم الساعة.. ولكن لِمَ تستبعدون ذلك؟ وقد قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ...} [لقمان: 28].
فالأمر ليس مزاولة يجمع الله سبحانه بها جزئيات البشر كل على حدة.. لا.. ليس في الأمر مزاولة أو معالجة تستغرق وقتاً. {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
ونضرب لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى فنحن نرى مثل هذه الأوامر في عالم البشر عندما يأتي المعلّم أو المدرب الذي يُدرِّب الجنود نراه يعلِّم ويُدرِّب أولاً، ثم إذا ما أراد تطبيق هذه الأوامر فإنه يقف أمام الجنود جميعاً وبكلمة واحدة يقولها يمتثل الجميع، ويقفون على الهيئة المطلوبة، هل أمسك المدرب بكل جندي وأوقفه كما يريد؟! لا.. بل بكلمة واحدة تَمَّ له ما يريد.
وكأن انضباط المأمور وطاعته للأمر هو الأصل، كذلك كل الجزئيات في الكون منضبطة لأمره سبحانه وتعالى.. هي كلمة واحدة بها يتم كل شيء.. فليس في الأمر مُعَالجة، لأن المعالجة أنْ يُباشر الفاعل بجزئيات قدرته جزئيات الكائن، وليس البعث هكذا.. بل بالأمر الانضباطي: كن.

ولذلك يقول تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 38].
نقول: الحمد لله أن هناك قليلاً من الناس يعلمون أمر البعث ويؤمنون به.
ثم يقول الحق سبحانه: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي...}.


{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ(39)}
فمعنى قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ..} [النحل: 39]. أي: من أمر البعث؛ لأن القضية لا تستقيم بدون البعث والجزاء؛ ولذلك كنت في جدالي للشيوعيين أقول لهم: لقد أدركتم رأسماليين شرسين ومفترين، شربوا دم الناس وعملوا كذا وكذا.. فماذا فعلتُم بهم؟ يقولون: فعلنا بهم كيت وكيت، فقلت: ومن قبل وجود الشيوعية سنة 1917، ألم يكن هناك ظلمة مثل هؤلاء؟ قالوا: بلى.
قلت: إذن من مصلحتكم أن يوجد بعث وحساب وعقاب لا يفلت منه هؤلاء الذين سبقوكم، ولم تستطيعوا تعذيبهم.
ثم يأتي فَصْل الخطاب في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} [النحل: 39]. أي: كاذبين في قولهم: {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ...} [النحل: 38].
وذلك علم يقين ومعاينة، ولكن بعد فوات الأوان، فالوقت وقت حساب وجزاء لا ينفع فيه الاعتراف ولا يُجدي التصديق، فالآن يعترفون بأنهم كانوا كاذبين في قَسَمهم: لا يبعث الله مَنْ يموت وبالغوا في الأَيمان وأكَّدوها؛ ولذلك يقول تعالى عنهم في آية أخرى: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46].
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ...}.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16